ما أجمل الليل، ما أعذبه، إنه مُنتهى السكون المنشود والهدوء المطلوب، الليل غطاءٌ، الليل لباسٌ، الليل اكتشافٌ، والليل حياة أخرى تشعّ بالدهشة وتحرّض على الحلم، على التأمل، على التألم، على التأوه بصمت واختفاءٍ عن الأعين المتلصصة، هو دبيبٌ ساحر من نوع مغاير. فنبضات شوارع تلك المدن الصاخبة والبعيدة جدًا تسمع، ونحيب الأشجار المنحنية للقمر، للصقيع، ولسرب الحمام، يتمازج صوتها الحزين ذاك مع هديل الحمام ومع أنين الأرصفة المبلطة بالرخام الأبيض العتيق، والتي تؤدي إلى المرافئ القديمة المهجورة، وإلى الزوايا المجهولة، المعتمة والمكتظة بالأنفاس الدافئة والقصص البسيطة وكل صنوف الشجن. الليل مملكة المُعَذبين والمُحتًرقين، وكاتم أسرارهم و دموعهم.
لم يعد "حسن" يعرف طعمًا للنوم، فمذ طُرد من عمله، شرّ طردة!، وهو شارد الذهن طوال اليوم ويفكر فيما هو آتٍ، وما ذا سيحل به وبعائلته الصغيرة مستقبلا؟ عندما يسقط ستار الظلام، ويلف الليل مدينته الصغيرة، ينتابه شعورٌ غريب، وتختلج صدره الضيق أحاسيس مفعمة ربما بالأمل أو شيء ما يشبهه..يزول عنه كل تعب النهار أو بعضه، ويغدوا شخصا مغايرا تمامًا..
ينتظر حتى تنام زوجته، فهو لا يود أن يتعبها معه ويبث القلق إلى قلبها الطيب، خاصة وأنها عروسٌ جديدة، ولم تقفل بعدُ شهرها الخامس معه، بعدما يتأكد من أنها غطّت في نوم عميق، يُغطِها جيّدًا من البرد، من الكوابيس..، ثم يجذب باب الغرفة وراءه، ينزل إلى الطابق الأرضي، يلبس معطفه الشتوي، ويضع على رقبته ذاك الشال الأحمر الذي أهداته إياه زوجته عندما التقيا أول مرة، ذات شتاء بارد في إحدى الأمكنة على وجه المدينة. ثم ينظر إلى المرآة، يُرتب شعره، ويضع بعضا من عطره المفضل..ويبتسم على جنونه هذا. أين سيذهب الآن في هذا الوقت المتأخر من الليل، حتى يهتم بهندامه بهذا الشكل؟ يُحكِم إغلاق باب المنزل جيدًا، فهو يخاف كثيرًا على امرأته، أن يصيبها أي مكروه، ويرمي بالمفتاح داخل جيب معطفه، الذي يَسعُ رفا كاملا من الكتب ودميتن صغيرتين!
عندما يخرج من منزله، أول ما يصادفه، تلك الشوارع الخاوية، التي تفتح له ضراعيها، وتدعوه إليها..، كان يمشي ولا يلتفت وراءه، ويقطع الشارع وراء الآخر، إلى أن وصل إلى "نهج بور شعيد !" الضاج نهارًا بالمارّة والباعة وبعض السياح، أما في الليل لا حياة لمن تنادي، غير بعض القطط والجرذان التي تتعارك على القمامة في تلك الزاوية المظلمة، وكذا اللافتة المتدلية على الحائط والمكتوب عليها اسم النهج، لما لمحها تساءل كيف تم إضافة ثلاثة نقاط فوق حرف السين؟ وهل يعقل أن شخصًا مرّ من هنا كان اسمه"شعيد"؟ أم أنها مجرد إحدى إبداعات الشباب العاطل عن الحياة في هذه المدينة؟! يذكر جيّدا في هذا المقام تلك الملصقة الإشهارية العملاقة التابعة لشركة اتصالات "وطنية!"، والمعلقة على واجهة إحدى العمارات، وكيف وصلت إليها الأيادي العابثة، وغيرت معنى و مبنى الشعار الذي كانت تحمله، فبعد أن زُحزحت كاف الكلمة الثانية من موضعها وعوّضت بالألف بات الشعار هكذا "الكل يتألم!". قبل نهاية النهج بخطوات، انعطف على يمينه، ودخل ممرا ضيّقا بين عمارتين، إلى أن وجد نفسه أمام حديقة المدينة، إنه المكان الوحيد الذي يجد فيه راحته، وخاصة في الليل.
لما همّ بالدخول للحديقة، تذكر أمر ذاك الحارس الخمسيني ذو الروح السمحة، قرر أن يلقي عليه السلام كعادته، فاقترب من غرفته الصغيرة تلك، التي تشبه علبة كبريت، وأطلّ عليه من زجاج تلك الكوّة، التي تلعب دور النافذة، فبعد أن مسح الضباب الذي يعلوها، وجده متكومًا في زاوية ونائم على كرسي بأقدام قصيرة، أشفق على الحالة التي عليها، يبدوا أنه يتعب كثيرًا في حياته ليُعيل عائلته، تركه على وضعيته تلك، ومباشرة توجه صوب مقعده الخشبي، الذي يقبع تحت شجرة معمرة من فصيلة نادرة، ذات جذع عريض وأغصان متشابكة مع بعضها البعض، قيل بأنه جيء بها من بلاد الهند منذ سنوات بعيدة. بعد أن جلس شعر بالبرد يلسعه من الأسفل ويتسلل إلى أعلاه، تنفس الصعداء و"النزلاء!"، وبدء يتأمل في السماء الصافية المتلألئة، راق له منظر البدر وهو يترنح بين السماء والأرض، وفجأة سقطت على رأسه محنته، وكيف حيكت القصة ضده، وتم فصله من العمل، وهو بريء، وكيف سيكون رد فعل زوجته لما تعرف بذلك؟ هو الآن يُريد أن ينس هذه القصة من أساسها، وأن لا يفكر فيها بعد اليوم، إلى أن تظهر الحقيقة، ولذلك هو في هذا المكان من هذا الوقت بالذات. عدّل من جلسته ثم سحب من الجيب الداخلي لمعطفه، الرواية التي بدء في قرأتها، منذ ليلتين لا أكثر، وهي للكاتب الفرنسي "أناتول فرانس" تحت عنوان جميل:"الزنبقة الحمراء"، وشرع في مواصلة مطالعته لها، تحت إنارة خافتة منبعثة من ذاك المصباح المعلق على عمود خشبي، فقد توقف البارحة عند الصفحة128، وهو يقرأ ويقلب الصفحات، ذاب في الرواية، وبات أحد شخصياتها، ولم يعد يحس بشيء حوله، غير رفرفة أجنحة الملائكة الصاعدة إلى السماء!، إلى أن وصل إلى هذه الجملة الصادرة عن "دي شارتر" أحد أبطال الرواية:"..أجل، إنّا نرى في الليل الآثار الحزينة لما أهملناه في الصحو.." أعاد قرأتها بصوت مرتفع، أعجبه كثيرًا هذا المقطع، لربما ينطبق عليه أكثر من غيره، نسي نفسه ثانية بين دفتي تلك الرواية، وعاد وغرق في تفاصيلها من جديد، وأصبح هدفه الوحيد هو معرفة المزيد، وكيف ستكون النهاية؟، مأسوية كعادة معظم الروايات العالمية، أم هي نهاية مفرحة تنفرج فيها العقد والمشاكل؟ في هذه الأثناء بالذات كانت خيوط الفجر تتدلى على سماء المدينة، والليل يجرجر ثوبه إلى أقاصي الأرض.
حمدي بن دالي.