إلا مصروفي
كلَّما شعرتُ بفرج يُصيبني بعد عُسْر، تذكَّرت حادثة مرَّتْ بي وأنا صغيرة، حادثة لا يُمكنني أن أنساها أبدًا، وسأذكرها لأولادي؛ لتكون عِبْرة لهم.
يومَها كنتُ طفلة في التاسعة من عُمري، لَم تكنْ عائلتنا غنيَّة بالمعنى المتعارَف عليه الآن؛ أي: غِنى المال، رغم أننا كنَّا ننعم برضًا، واعتزاز بالنفس، وترفُّع عن السفاسف.
كنَّا عائلة متماسكة سعيدة، وكان والدي يعمل نهارًا وشطرًا من الليل؛ ليؤمِّن لنا ما يجعلُنا نعيش مرفوعي الرؤوس أعزَّاء، محاولاً قَدر الإمكان إبعادَ شبح العوز عنَّا، وكنَّا نقدِّر تَعبه وتَفَانيه، فكنَّا نحجم عن إثقاله بطلبات يُمكننا الاستغناء عنها؛ لذلك لَم نكنْ نحظَى بمصروفٍ يومي كما أولاد هذه الأيام، بل جُل ما كنَّا نحصل عليه هو مَبلغ زهيد أسبوعي، يُمكننا به شراء حبَّة حَلوى وعلبة عصير، وكنتُ أعتبر هذا شيئًا كبيرًا، ويوم المصروف كنتُ أنتظره وأفرح به كيوم العيد.
كثيرًا ما كنتُ أقف في وقت الفسحة أيام الأسبوع أمام دكَّان العمِّ أحمد، أطالِع الحلوى التي يَبيعها، وأسأل عن أسعارها؛ لأخطِّط ما سوف أشتريه في يوم عيدي الأسبوعي.
وفي عيد من أعيادي الأسبوعيَّة، استيقظتُ صباحًا وأنا أكاد أطير فرحًا، فاليوم يوم مصروفي الأسبوعي، اليوم سأشتري ما خَطَّطتُ له طيلة أسبوع، قفزتُ من سَريري بِهِمَّة ونشاط، وأسرعتُ في تحضير نفسي؛ لأقفَ مع إخوتي أمام والدي والغبطةُ تُرفرف علينا ونحن نأخذ منه المصروف، ونقبِّل يده فرحين شاكرين، وبعدها انطلقتُ إلى المدرسة وأنا أحلم بوقتِ الفسحة، وبدكَّان العمِّ أحمد وحلوياته.
مرَّت الحصص التي سبقتْ وقت الفسحة بطيئة، كنتُ أجبر نفسي على الانتباه؛ كيلا أطير بأفكاري من جديد إلى الدكَّان وإلى ما سوف أشتريه.
استرقتُ نظرة سريعة إلى ساعة الحائط، بَقِي خمس دقائق وتنتهي الحصة، وننطلق إلى الملعب، مددتُ يدي خلسة إلى حقيبتي أُخرج منها شطيرتي؛ كي أكون أولَ الجاهزين، فأُسرع إلى الملعب وإلى أكل الشطيرة، ثم الذهاب إلى الدكَّان للشراء، فقانون المدرسة كان يَمنعنا من شراء الحلوى إن لَم ننهِ طعامنا أولاً.
وقرع الجرس، كم أطربُ لسماعه، خاصة في آخر الحصة التي تَسبق وقت الاستراحة، لكن صوته اليوم أطربني أكثر من كلِّ مرة، صوت كنتُ أنتظره منذ بداية الحصة.
وأسرعت بالنزول على السلالِم مُسرعة وأنا أحاول نزعَ ورق الشطيرة وتحضيرها للأكل، حالَما تطأ قدماي أرضَ الملعب.
كنتُ أرى نظرات التعجُّب في عيون الزملاء والمعلِّمة المناوبة، فأنا ما عُرِفتُ إلا بالانضباط والهدوء، لكن لو يعلمون سببَ استعجالي، ما كانوا ليتعجَّبوا أبدًا، وما كانوا ليلوموني عليه أيضًا.
جلستُ على مقعد ورحتُ أقضم شطيرتي بسرعة، وأنظر إليها كلَّ قضمة؛ لأُعاين كم بَقِي منها.
أخيرًا سأنهيها والحمد لله، لَم يَبقَ منها إلا قضمات قليلة، واسترقتُ نظرة سريعة إلى حيث دكَّان العم أحمد، الحمد لله، لا يوجد الكثير من الطلاب يشترون، فأغلبهم ما زال يأكل طعامه، ومَن سيكون أسرع منِّي في الأكل هذا اليوم بالذات؟
وبينما أنا أعيد نظري إلى شطيرتي لأقضم منها اللقمة ما قبل الأخيرة، إذا بي أَلْمَح زميلتي "هدى" تجلس بعيدة مُنزوية عن الأنظار تَبكي، لا أعرف لماذا توقَّفتُ عن طعامي، وقمتُ من مَجلسي وأسرعتُ إليها وفي عيني فضولٌ لمعرفة سبب بكائها.
ما أن اقتربتُ منها، حتى أشاحتْ بوجهها عني؛ كيلا أرى دمعاتها التي حاولتْ جاهدةً مَسحها، جلستُ قربها مُحيية ومتسائلة:
• هدى، ما بكِ؟ لماذا تبكين؟
هزَّتْ هدى رأسها وقالتْ: لا شيء يا ليلى، أشكرك على سؤالك.
• لكنك تبكين، أرجوك أخبريني ما بكِ، أم تريدينني أنْ أنادي المعلمة؛ لترى ما بكِ؟
• المعلمة لا، أرجوك لا تناديها، أنا بخير والحمد لله، الأمر لا يستأهل.
• لكن ما بكِ؟ أخبريني، قد يُمكنني مساعدتك.
رفعتْ هدى نظرها؛ لتسترق نظرة سريعة إلى ما تبقَّى من الشطيرة التي في يدي، وشعرتُ حينها أن الأمر يتعلَّق بالطعام، وتذكَّرتُ أنني لَم أرَ شطيرتها بيدها، فسألتُها بسرعة:
• أين طعامك يا هدى؟
أجابتْ بحزن وبصوت باكٍ: لقد نسيتُها في البيت، وأنا أشعر بجوع شديد، فأنا لَم أذق الطعام منذ غداء أمس.
أنا أصدِّق هدى، فكلُّنا يعرف أنها فتاة يتيمة فقيرة، تعمل أُمُّها؛ لتؤمِّن لها ولإخوتها ما يسد رَمَقهم فقط، وبالطبع ليس لهم مصروف أسبوعي كمصروفي، ولا يوم عيد كيومي، الحمد لله كم نحن أغنياء فعلاً.
وبتنهيدة من هدى أعادتني إليها، وإلى أَلَمها وحزنها، نظرتُ إليها ونظرتُ إلى شطيرتي، لَم يَبقَ منها إلا لقمتان، وماذا ستفعل اللقمتان معها؟
لا بد من حلٍّ آخرَ، أنا أريد مساعدتها، ولكن ماذا بيدي فِعْله؟
وتذكَّرت المال الذي في جعبتي، لا، إلا هو، لا يُمكنني أن أفرطَ فيه لأيِّ سببٍ من الأسباب، ولو كان جوع "هدى" وعذابها.
لكن، كيف يُمكنني أنْ أهنأَ بالحلوى والعصير وأنا أعرف أن زميلتي تبكي من الجوع؟!
الأمر صعب عليّ، ومَددتُ يدي إلى جيبي أتَحسَّس الورقة النقديَّة التي داخله، وبسرعة أخرجتُها وكأن أفعى لدغتها، لا، لن أعطيها مصروفي، إنه لي، وأنا انتظرتُه أسبوعًا كاملاً، سأتركها لشأْنها وأُسْرع لأشتري الحلوى التي اخترتها منذ أيام، لا، إلا مصروفي، إنه لي، إيَّاك يا نفس أن تراوديني على التفريط فيه، وهدى؟ هدى صَديقتي نعم، وهي أخت لي في الإسلام، لا أُنكر هذا، ولكنَّه خطؤها هي، لن أتحمَّل تبعاته أنا، هي نَسيتْ طعامها، ليكن عليها أن تتحمَّل الجوع، لكن أليس المسلمون إخوة؟ أليس المسلمون كالجسد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعتْ له سائر الأعضاء بالسهر والحُمَّى؟ يكفي، إيَّاك يا نفس أن تتمادي، لا، مصروفي لي ولن أقدِّمه لأحدٍ أبدًا.
وقمتُ من مكاني، وأسرعتُ الخطى إلى الدكَّان، وأنا أحاول ألا ألتفتَ إلى هدى؛ كيلا يرقَّ قلبي لها.
ومددتُ يدي بالورقة النقديَّة للعم أحمد، فسألني: ماذا أريد؟ وإذ بصوت أسمعه وأعرفه جيدًا يقول: شطيرة جبن يا عم، صوت مَن هذا؟ إنه صوتي أنا، فبدلاً من أن أطلب الحلوى التي أريدها طلبتُ شطيرة جُبنٍ، وأسرعتُ بالشطيرة إلى هدى، قدَّمتها لها ورُحتُ أمسح دمعات فرحٍ ملأتْ عيني وأنا أراها تأخذها بعد تردُّدٍ وتُسْرِع بأكْلها قبل انتهاء الفسحة.
ماذا فعلتُ؟ ولماذا لَم أشعر بالحزن على مصروفي وشعرتُ بدلاً منه بالفرح والاعتزاز؟
سؤال لَم أعرف الإجابة عنه إلا بعد فترة، عندما كانت المعلِّمة تشرح لنا المساعدة، وكم أنها مهمة، وقالتْ: إن الذي يساعد يشعر بفرحٍ؛ لأنه استطاع أن يُخفِّف من تعب الآخرين ومِن همومهم، وإنَّ مَن يسَّر على مُعسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة.
-------
شبكة الألوكة.