المنشاوي الورداني.
سقوط غرناطة .
.
في أوائل القرن السابع الهجري "الثالث عشر الميلادي"، وفي الوقت الذي سقطَتْ قواعِدُ العرب في إسبانيا مثل قرطبة وإشبيليَة وبَلَنسيَة ومُرْسِيَة، تَحدَّثَت أنباء عن قيام مَمْلكة غرناطة الإسلاميَّة الصغيرة على أنقاض الأندلس الكُبْرى، وذلك في الرُّكن الجنوبِيِّ من شِبْه الجزيرة الإسبانية، فيما بَيْن نَهْر الوادي الكبير والبحر، على مقربة من العدوة المغربيَّة؛ لتكون مَلاذَها وقت الخطر الدَّاهم، وشاء اللهُ أن تَنْهض هذه الأندلسُ الصُّغرى، وأن تستطيع إعادةَ دولة الحضارة مرَّة أخرى، كما شاء اللهُ أن ينطفئ نورُ هذه الحضارة حينما أَشْهَر المَلِكان الكاثوليكيان (فرناندو) و(إيزابيلا) - مَلِكا إسبانيا المتحدةِ - حربَهما المدمِّرة للقضاء على مَمْلكة غرناطة، وسَرِقَة مَعالِم هذه الحضارة.
وقد كشف الدكتور (خوسيه غوميث سولينيو) عن عُثورِه على وثيقة إنجليزيَّة تؤكِّد أنَّ سقوط غرناطة الإسلامية والحصار الذي عانت منه المدينة "كان أكثر شراسة مِمَّا هو معروف حتَّى الآن".
ومؤلِّف وثيقة "سقوط غرناطة" شخص إنجليزي متخصِّص في قوانين الكنيسة، ويُدْعَى "ويليام ويدمونهام"، وكان أحدَ المَدْعوِّين لِحُضور الصَّلاة والاحتفال في كنيسة "سان بابلو" بِمُناسبة سقوط غرناطة الإسلامية.
وتتحدَّث الوثيقة عن حجم الأسلحة الَّتي كانت بِحَوزة الغرناطيِّين، ومَدى التَّرَف والأُبَّهة التي تَميَّزَت بِها القصور الغرناطيَّة والبلاط الملَكِي، وأثر الحضارة التي فرضَتْه القوَّات الإسبانيَّة على أهالي مدينة غرناطة، حتَّى اضطرَّهم إلى أكل الكِلاب والقطط، ويَخْلص إلى أنَّ العرب دفعوا ثَمنًا باهظًا للغاية بسقوط آخِر جوهرة لهم في أوربا.
ويَذْكر المؤلِّف أنَّ القوَّات التي حاصرَتْ غرناطة كانت أكبَر بكثيرٍ من عدد القوَّات الغرناطيَّة، مُخالفًا بذلك الرواية المتواترة من أنَّ جيش غرناطة كان كثيرًا، وتضيف الوثيقة أنَّ "أهالي غرناطة مَرُّوا بِمُعاناة قاسية خلال أعوام الحصار، وقامَتِ القُوَّات الإسبانيَّة بتحطيم وحَرْق الحقول المُجاورة للمدينة، ما تسبَّب في مَجاعة رهيبة بين سُكَّان غرناطة، ولِهَذا السبب أكلوا الخيول والكلاب والقطط".
وتتعرَّض الوثيقة أيضًا للكنوز الهائلة التي سرَقها الإسبانُ بعد انتصارهم، "ففي مسجد غرناطة كان هناك 300 مصباح من الذَّهب والفضَّة، وعثر ملكُ إسبانيا على كمِّيات هائلة من الذَّهَب، وبِها بنَى الكنيسة مكانَ المسجد"، ويَذْكر المؤلِّف أيضًا: "أنَّ جدران أحَدِ القصور كانت مبنيَّة من البازلت، ومرصَّعة بالأحجار الكريمة؛ لذلك تَمَّ الاستيلاءُ على كميات هائلة من تلك الجواهر والأحجار الكريمة في قصور غرناطة".
ويذكر المؤلِّف الإنجليزي أنَّ "الملك فرناندو لَم يسمح للمسلمين إلاَّ بما يستطيع كلُّ واحد منهم أن يَحْمله على ظهره من حاجات، ما عدا الذَّهَب والفِضَّة والسِّلاح"؛ ولِهذا فإن الجيش الإسبانِيَّ وجد عند دخوله المدينةَ الآلافَ من الأسلحة من سيوف ودروع ومَجانيق
وحسب الوثيقة تَمَّ الاستيلاء على (22000) سيف، منها (10000) مطلية بالذَّهَب من الطَّرفَيْن.
ويُشير الدكتور "غوميث سولينيو" إلى أنَّ الوثيقة تَذْكر أن افتتاح غرناطة تَمَّ عام 1491، والصحيح هو 1492، والسبب هو أن السَّنة الجديدة لدى الإنجليز كانت تبدأ في 25 مارس/ آذار، وليس الأول من شهر يناير/ كانون الثاني، ويَذْكر الدكتور "غوميث سولينيو" ملاحظة أخرى، وهي أنَّ الوثيقة تشير إلى أنَّ سقوط غرناطة تَمَّ يوم 1 يناير/ كانون الثاني، والصحيح هو يوم 2؛ أيْ: في اليوم التَّالي، ويُعلِّل ذلك بأن الملك (فرناندو) كان قد أعلم قوَّاتِه المرابِطةَ في مدينة (سانتافي) القريبة من غرناطة يوم 1 يناير/ كانون الثاني بأنَّ اتِّفاق الاستسلام قد تَم، وأنه سيدخل المدينة في اليوم التالي؛ أي: 2 يناير/ كانون الثاني.
ثم يتساءل الدكتور "غوميث سولينيو": "كيف يُمكن لشخص إنجليزي أن يُعْطِي أخبار حرب غرناطة؟" إنَّ السبب في ذلك هو أنَّ الملك "فرناندو" والملكة "إيزابيلا" كانا قد سعَيا إلى الحصول على موافقة من البابا "إينوثينو الثامن" بإعلان الحرب الصليبيَّة على غرناطة، وما أَنْ أَعلن البابا هذه الحربَ حتَّى هبَّ ملوكُ أوربا لِمُساعدة الجيش الإسبانِيِّ بإرسالهم الفِرَقَ العسكرية، ومنها فِرْقة كبيرة، شارك فيها أحدُ أقرباء "هنري السابع" ملك إنجلترا، وكان هؤلاء يعدُّون الْخُطط لِمُهاجمة غرناطة مع الملك فرناندو.
ويَخْتم الدكتور "غوميث سولينيو" بَحْثَه حول تَبِعات سقوط غرناطة، فيقول: إنَّ انهيار الحكم العرَبِيِّ في هذه المدينة كان له صدًى كبيرٌ وواسع جدًّا، ليس فقط في إسبانيا، وإنَّما في كلِّ أوربا، فأُقِيمت الصَّلَوات في العديد من المناطق، ومنها صلواتٌ في إنجلترا، حيث أُقيمت صلاةٌ في ساحة "سان بابلو" المقابِلَة للكاتدرائيَّة التي تَحْمل نفس الاسم، وحضَرَها أُسْقُفُّ "كانتربري"، وأُسقفُّ "لندن"، ورئيس بلدية لندن، وأعضاء المَجلس البلدي لِتَقديم الشُّكر لهذه المناسبة.
وعندما غدَتْ بقايا الأمَّة الأندلسية العظيمة كالعبيد في ظلِّ الحكم الإسبانِيِّ، لم يكن يدور بِخَلَدِهم شيءٌ مِمَّا دبَّرَتْه السياسة الإسبانية، من مشاريع بعيدة المدى، للقضاء على وطنهم ودينهم وتُراثهم، وكلِّ مقوِّماتِهم الحضاريَّة والرُّوحية، وبدأَتِ السياسة الإسبانية بفرض التنصير المغصوب على أبناء الأمَّة المغلوبة.
ثم قرن الكاردينال "خمنيس" منفِّذُ هذه السِّياسة، عمَلَه بإجراء مدمِّر آخَر، هو أنه أمَر بِجَمع كل ما يستطيع جَمْعُه من الكتب العربية، مِن أهالي غرناطة وأرباضِها، ونُظِّمت أكوامٌ هائلة في ميدان باب الرملة، أعظم ساحات المدينة، ومِنْها كثيرٌ من المصاحف البديعة الزُّخرف، وآلافٌ من كتب الآداب والعلوم، وأُضْرِمَت فيها النَّار جَميعًا، ولم يُسْتثْنَ منها سوى ثلاثِمائة من كتب الطبِّ والعلوم، حُمِلَت إلى الجامعة التي أنشَأَها في قلعة "هنارس"، وذهب ضحيَّةَ هذا الإجراء الهمجيِّ عشراتُ الألوف من الكتب العربيَّة، هي خلاصة ما تبقَّى من التفكير الإسلامي في الأندلس.
واستمرَّت مطاردة السِّياسة الإسبانية للكتب العربية بعد فعلة "خمنيس"، فجُمِعت منها خلالَ النِّصف الأوَّل من القرن السادس عشر مقاديرُ عظيمة أخرى، من غرناطة ومن مُختَلِف القواعد الأندلسيَّة القديمة، ولا سيَّما بَلَنْسيَة ومرسيَة، حيث كانت لدى المورسكيين والعرَبِ المتنصِّرين منها مجموعاتٌ كبيرة، ولكنها لم تُعَد ولم تُحرق هذه المرَّة، بل لقيت سبيلها إلى المكتبة الملَكيَّة في الأسكوريال أيام فيليب الثاني.
وفي سنة 1612 م وقع حادثٌ ترتَّب عليه أنْ ضُوعفت المجموعة العربيَّة بالمكتبة الملكية؛ وذلك أنَّ أسطولاً إسبانيًّا بقيادة "دون بيدرو دي لارا"، وكان يجوس خلال المياه المغربيَّة تُجاه ثغر آسفي، ففاجأ قافلة من السُّفن المغربية كانت تصحب ملك المغرب "مولاي زيدان الحسَنِي"، وكانت من بينها سفينة مشحونة بالتُّحَف، وبِها نحو ثلاثة آلاف سِفْر من كتب الفلسفة والأدَب والدِّين، فاسْتَولى عليها الإسبان، وكانت هذه الكتب من مُحتويات المكتبة الزيدانيَّة الشهيرة.
وكان "مولاي زيدان" قد اضْطُرَّ تحت ضغْطِ خصومه أن يُغادر عاصمة مراكش، وأن يحمل معه تُحَفَه وكتبه، فاستَلَبها الإسبان على هذا النَّحو، وحُمِلَت غنيمة إلى قصر "الإسكوريال"، وبذلك بلغَتِ المجموعة العربية في "الإسكوريال" في أوائل القرن السابع عشر نحو عشرة آلاف مجلَّد.
وبقِيَت هذه الآلاف العشرة من المخطوطات الأندلسية والمغربية في قصر "الإسكوريال" زهاءَ نصف قرن، وكانت أغنَى وأنفسَ مَجْموعة من نوعها في إسبانيا، وفي أوربا كلِّها، ولكنَّ مِحْنةً جديدةً أصابت هذه البقيَّة الباقية من تُراث الأندلس الفكري، ففي سنة 1671 شبَّت النار في قَصْر "الإسكوريال"، والْتَهَمَت معظم هذا الكَنْز الفريد، ولم يُنْقَذ منه سوى زهاء ألْفَيْن هي الَّتي تثوي اليوم في أقْبِيَة "الإسكوريال".
ويَذْكر الدكتور محمد عبدالله عنان في كتابه عن نِهاية دولة الأندلس أنَّ مُحاولاتٍ عديدةً بُذِلَت من ملوك المغرب؛ لاسْتِرداد تُراث العرب من الأندلس بعد فراقها، ولكنَّها كانت دون جدوى.
وإحساسًا بعظم النَّكبة التي حدَثَت للمسلمين في الأندلس قام العلاَّمة اللُّغويُّ حسن الكومي بإِنْجاز عمَلٍ موسوعي ضَخْم، كتَبَه "هنري تشارلزلي" بعنوان: "مَحاكم التفتيش في إسبانيا": "A History of the Inquisition in Spain".
وقال: إنَّ مِن دوافعه إلى ترجَمة الكتاب عدَمَ وجود بَحْث تاريخي عن العرب والمسلمين في إسبانيا بعد سقوط غرناطة؛ موضِّحًا أنَّ "ما جرى للعرب والمسلمين من اضطهاد وقَهْر، وانتزاعِ أملاك وأموال، وسرقة وطَرْد وتشريد، وغير ذلك، يُشْبه ما جرى ويَجْري لعرب فلسطين بالاحتلال الإسرائيليِّ لبلدهم، وإنشاء دولة إسرائيل فيه"، كما يشبه ما حدث من فوضى وسرقات من جانب قوات الاحتلال الأمريكي بعد سقوط بغداد