يقول ابن القيم :
"سمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - يقول : في بعض الآثار الآلهية يقول الله تعالى : "إني لا أنظر إلى كلام الحكيم ، وإنما أنظر إلى همته " .
قال : والعامة تقول : قيمة كل امرئ ما يُحسن . والخاصة تقول : قيمة كل امرئ ما يطلب ؛ يريد أن قيمة الرجل هِمَّتُه و مطلبُه " . فهنالك هِمَّة تدور حول الأنتان و الحُشِّ : ذكر الله حسب صاحبها و موته ، وذكر الناس فاكهته وقوته ، يُنادي إلى الله عز وجل و الدار الآخرة من مكان قريب فلا يُجيب النداء ، الدنيا تصمُّه عما سوى الباطل و تُعميه .
فاستأنس بغيبته ما أمكنك ، فإنه لا يُوحشك إلا حضورُه عندك ، فإذا ابتُليت به فأعطه ظاهرك ، وتَرَحَّل عنه بقلبك ، وفارقْه بسِّرك ، ولا تشغلْ نفسك إلا بما هو أولى بك .
واعلم أن الحسرة كل الحسرة : الاشتغال بمن لا يجرُّ به إلا فوتَ نصيبك و حظَّك من الله عز وجل ، وانقطاعك عنه ، وضياعَ وقتك عليك ، وضعْفَ عزيمتك وتفرُّقَ همِّك ، وإياك وقاطعَ الطريق ولو كان من كان ، فانجُ بقلبك ، وضنَّ بيومك وليلتك ، لا تغرب عليك الشمس قبل وصول المنزلة فتؤخذ ، ولا تُدرك أحباباً أنى لك بلحاقهم .
وهمَّةٌ أخرى : ارتبطت بمن فوق العرش جل وعلا إرادةً وطلباً ، وشوقاً ومحبةً ، وإخباتاً وإنابةً ، لا مُستراح لها إلا تحت شجرة طوبى ، ولا قرارَ لها إلا في يوم المزيد ، كلما طال عليها الطريق تلمَّحت المقصد ، وكلما أمرَّت الحياة حلى تذكَّرت <<{ هذا يومكم الذي كنتم توعدون }>> .
كان الأعرابي يأتي إلى رسول الله يسأله حفنةً من شعير قائلاً : يا محمد ، أعطني من مال الله ، فإنه ليس مالك ولا مال أبيك .. ما يطلب إلّا ما يذهب إلّا إلى الحش .. هذه هِمَّةٌ .. وهِمَّة ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه هِمَّة وفوق الشمس .
عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال : كنتُ أبيت مع رسول الله (ص) فأتيته بوضوئه وحاجته ، فقال لي : "سل" فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة . قال : " أو غير ذلك ؟" قُلتُ : هو ذلك . قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود " .
حِّث عن القوم فالألفاظ ساجدة ...خلف المحاريب والأوزان تبتلُ
قال شيخ الإسلام الهروي الأنصاري :
"الهِمَّة :ما يملك الانبعاث للمقصود صِرفاً ، لا يتمالك صاحبها ولا يلتفت عناه " .
قال ابن قيم الجوزية :
"قوله : " يملك الانبعاث المقصود " ؛ أي يستولي عليه كاستيلاء المالك على المملوك .
والمراد : أن همة العبد إذا تعلَّقت بالحق تعالى طلباً صادقاً خالصاً محْضاً ، فتلك هي الهمة العالية ، التي (( لا يتمالك صاحبها )) ؛ اي لايقدر على المُهلة ،ولا يتمالك صبره ؛ لغلبة سلطانه عليه ، وشدة إلزامها اياه بطلب المقصود ، ((ولا يلتفت عنها )) الى ما سوى أحكامها . وصاحب هذه الهمة سريعٌ وصولُهُ وظَفرُهُ بمطلوبه ، مالم تعقْه العوائق ، وتقطعْه العلائق ، والله أعلم )) .
قال الهروي : وهي على ثلاث درجات :
الدرجة الاولى : هِمَّة تصون القلب عن وحشه الرغبة في الفاني ، وتحمله على الرغبة في الباقي ، وتُصَّفيه من كَدَر التواني .
يقول ابن القيم :
الفاني : الدنيا وما عليها ، أي يزهد القلب فيها وفي أهلها ، وسمَّى الرغبة فيها ((وحشة )) ؛ لأنها وأهلها توحش قلوب الراغبين فيها ، وقلوب الزاهدين فيها .
أما الراغبون فيها : فأرواحهم وقلوبهم في وحشة من أجسامهم ، إذ فاتها ما خُلقت له ، فهي في وحشة لفواته.
وأما الزاهدون فيها : فإنهم يرونها موحشة لهم ؛ لأنها تحول بينهم وبين مطلوبهم ومحبوبهم ، ولا شيء أوحش عند القلب مما يحول بينه وبين مطلوبه ومحبوبه .
وايضا : فالزاهدون فيها : إنما ينظرون اليها بالبصائر ، والراغبون ينظرون إليها بالأبصار ، فيستوحش الزاهد مما يأنس به الراغب ، كما قيل :
وإذا أفاق القلب واندمَلَ الهوى ......... رأت القلوبُ ولم تر الأبصارُ
وكذلك هذه الهمة تحمله على الرغبة في الباقي لذاته ، وهو الحق سبحانه ، والباقي بإبقائه وهو الدار الآخرة .
((وتصفِّيه من كدر التواني )) ؛ اي تُخلِّصه وتُمَحِّصه من أوساخ الفتور والتواني ، الذي هو سبب الإضاعة والتفريط ، والله اعلم .
قال :
والدرجة الثانية : هِمَّةٌ تُورث أَنَفَةً من المبالاة بالعلل ، والنزول على العمل ، والثقة بالامل .
قال ابن القيم : ((العلل ))هاهنا هي علل الأعمال من رؤيتها ، أو رؤية ثمرتها وإرادتها ونحو ذ لك ، فإنها عندهم علل .
فصاحب هذه الهمة يأنف على هِمَّته وقلبه من أن يُبالي بالعلل ، فإن همته فوق ذلك ، فمبالاته بها ، وفكرته فيها ، نزول من الهمة ، وعدم هذه المبالاة ، إما لأن العلل لم تحصل له ؛ لأن عُلُوَّ هِمَّته حال بينه وبينها ، فلا يُبالي بما لم يحصل له ، وإما لأن هِمَّته وسِعَتْ مطلوبه ، وعُلُوُّه يأتي على تلك العلل ويستأصلها ، فإنه إذا علَّق هِمَّته بما هو أعلى منها ؛ تضمنَّتها الهِمَّة العالية ، فاندرج حكمُها في حكم الهمة العالية . وهذا موضع غريب عزيز جدا ، وما أدري أقصده الشيخ او لا ؟
وأما أنَفَته من النزول على العمل : فكلام يحتاج الى تقييد وتبيين ، وهو أن العالي الهمة مطلبُه فوق مطلب العُمَّال والعُبَّاد ، وأعلى منه ، فهو يأنف أن ينزل من سماء مطلبه العالي إلى مجرد العمل والعبادة ، دون السفر بالقلب إلى الله ، ليحصل له ويفوز به ، فانه طالبٌ لربه تعالى طلباً تامَّاً بكل معنى واعتبار في عمله ، وعبادته ومناجاته ، ونومه يقظته ، وحر كته وسكونه ، وعُزْلته وخُلطته ، وسائر احواله ، فقد انصبغ قلبه بالتوجُّه الى الله تعالى أيّما صبغة .وهذا الأمر إنما يكون لأهل المحبة الصاد قة ، فهم لايقنعون بمجرد رسوم الأعمال ، ولا بالاقتصار على طلب حال العلم فقط .
قال :
الدرجة الثالثة : هِمَّةٌ تتصاعد عن الأحوال والمعاملات ، وتزري بالأعواض والدرجات ، وتنحو عن النعوت نحو الذات .
أي هذه الهمة أعلى من أن يتعلَّق صاحبها بالأحوال التي هي آثار الاعمال والواردات ، أو يتعلَّق بالمعاملات ، وليس المراد تعطيها ، بل القيام بها مع عدم الالتفات اليها والتعلق بها .
ووجه صعود هذه الهمة عن هذا : ما ذكره من قوله : ((وتُزري بالأعواض والدرجات ، وتنحو عن النعوت نحو الذات )) ؛ أي صاحبها لايقف عند عِوَضٍ ولا درجة ، فإن ذلك نزول من هِمَّته ومطلبُه أعلى من ذلك ، فإن صاحب هذه الهمة قد قصر هِمَّته على المطلب الأعلى ، الذي لا شيء أعلى منه ، والأعواض والدرجات دونه وهو يعلم أنه إذا حصل له فهناك كل عِوَضٍ ودرجة عالية .
وأما نحوها (( نحو الذات )) فيريد به : أن صاحبها لايقتصر على شهود الأفعال والأسماء والصفات ؛ بل الذات الجامعة لمتفرقات الأسماء والصفات والأفعال ، والله أعلم .
أخي ، إنما خُلقنا لنحيا مع الخالق ، في دار غرسَ غراسها الرحمنُ بيده ، ((إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة ))، فما اشترى إلا سلعةً هذَّبها الإيمان ، فخرجت من طبعها إلى بلد ؛ سُكَّانُه التائبون العابدون.
سلِّم المبيع قبل أن يتلف في يدك ، فلا يقبله المشتري ، قد علم المشتري بعيب السلعة قبل أن يشتريها فسلمها ، ولك الأمان من الرد .
قدْرُ السلعة يُعرف بقدر مشتريها ، والثمن المبذول فيها ، والمنادي عليها ، فإذا كان المشتري عظيماً ، والثمن خطيراً ، والمنادي جليلاً ؛ كانت السلعة نفيسةً .