في ذكر الدنيا وأحوالها وتقلبها بأهلها والزهد فيها
إن الدنيا مثل ظل الإنسان إن طلبته فر، وإن تركته تبعك،
قال الله تعالى: " قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن أتقى " . " النساء: 77 " .
لقوله تعالى: " إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة " . " الحديد: 20 " .
وقال تعالى: " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " . " العنكبوت: 64 " .
ثم تأمل بعقلك هل أتاك الله من الدنيا مثل ما أوتي لسليمان عليه الصلاة والسلام حيث ملكه الله تعالى جميع الدنيا من إنس وجن وسخر له الريح والطير والوحوش، ثم زاده الله تعالى أحسن منها حيث قال: " هذا عطاؤنافآمنن أو أمسك بغير حساب " . " ص: 39 " . فوالله ما عدها نعمة مثل ما عددتموها ولا حسبها رفعة مثل ما حسبتموها، بل خاف أن يكون استدراجاً من حيث لا يعلم فقال: " هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر" . " النمل:. 4 " .
وهذا فصل الخطاب لمن تدبر. هذا وقد قال لك ولجميع أهل الدنيا: " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون " . " الحجر: 93 " .
وقال تعالى " وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " . " الأنبياء: 47 " .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراًمنها شربة ماء " .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أريك الدنيا بما فيها؟ قلت بلى يا رسول الله، فأخذ بيدي وأتى إلى واد من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس وعذرات وخرق بالية وعظام البهائم، فقال: يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص حرصكم وتأمل آمالكم وهي اليوم صارت عظاماً بلا جلد، تم هي صائرة عظماً رميماً، وهذه العذرات ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبتموها في الدنيا فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية رياشهم أصبحت والرياح تصفقها، وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد. فمن كان باكياً على الدنيا فليبك قال: فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا " .
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على سرير من الليف وقد أثر الشريط في جنبه، فبكي عمر رضي الله تعالى عنه،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر؟ فقال: تذكرت كسرى وقيصر. وما كانا فيه من سعة الدنيا، وأنت رسول الله، وقد أثر الشريط بجنبيك، فقال صلى الله عليه وسلم: هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهما الدنيا، ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا قي الآخرة.
وروي عن الضحاك قال: لما أهبط الله آدم وحواء إلى الأرض ووجدا ريح الدنيا وفقدا ريح الجنة غشى عليهما أربعين يوماً من نتن الدنيا.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقاء العينين أنيابها بادية، مشوهة الخلق لا يراها أحد إلا هرب منها، فتشرف على الخلائق أجمعين فيقال هم: أتعرفون هذه؟ فيقولون: لا نعوذ بالله من معرفة هذه، فيقال: هذه الدنيا التي تفاخرتم بها وتقاتلتم عليها.
وفيه قال بعضهم:
إنما الرزق الذي لا تطلبه ... يشبه الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعاً ... وهو وإن وليت عنه تبعك
يا ابن آدم
ولقد أصاب ابن السماك حيث قال للرشيد لما قال له عظني، وكان بيده شربة ماء فقال له: يا أمير المؤمنين لو حبست عنك هذه الشربة أكنت تفديها بملكك، قال: نعم، قال يا أمير المؤمنين: لو شربتها وحبست عن الخروج أكنت تفديها؟ بملكك؟ قال: نعم، فقال له: لا خير في ملك لا يساوي شربة ولا بولة.
وقال وهب بن منبه: خرج عيسى عليه الصلاة والسلام ذات يوم مع أصحابه، فلما ارتفع النهار مروا بزرع قد أفرك. فقالوا: يا نبي الله إنا جياع فأوحى الله تعالى إليه أن ائذن لهم في قوتهم. فأذن لهم، فتفرقوا في الزرع يفركون ويأكلون، فبينما هم كذلك إذ جاء صاحب الزرع يقول: زرعي وأرضي ورثتها من أبي وجدي، فبإذن من تأكلون يا هؤلاء؟ قال: فدعا عيسى ر به أن يبعث جميع من ملكها من لدن آدم إلى تلك الساعة، فإذا عند كل سنبلة ما شاء الله من رجل، وامرأة يقولون: أرضنا ورثناها عن آبائنا وأجدادنا، ففر الرجل منهم، وكان قد بلغه أمر عيسى ولكن لا يعرفه، فلما عرفه قال معذرة إليك يا نبي الله لم أعرفك زرعي ومالي حلال لك، فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال: ويحك هؤلاء كلهم ورثوها وعمروها، ثم ارتحلوا عنها، وأنت مرتحل عنها ولاحق بهم، ليس لك أرض ولا مال.
ارحل من الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام تعد قلائل