بسم الله الرحمان الرحيم .
أمثال من القرآن : الانتكاس :
قال الله تعالى :" َواتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ
الْغَاوِينَ(175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن
تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ(176) ."الأعراف175.
المثل : المثل كلمة مشتقّة من مِثل، أي شِبه . يذكر المبرّد في كتابة الكامل أنّ المثل مأخوذ من المثال وهو قول سائر يُشبَّه به حال الثاني بالأوّل؛ فالأصل فيه التشبيه .
قال ابراهيم النظام :يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام :
- إيجاز اللفظ - إصابة المعنى - حسن التشبيه- جودة الكفاية ,فهو نهاية البلاغة.
شرح مبسط للآية : واقصص -أيها الرسول- على أمتك خبر رجل من بني إسرائيل أعطيناه
حججنا وأدلتنا, فتعلَّمها, ثم كفر بها, ونبذها وراء ظهره, فاستحوذ عليه الشيطان, فصار من
الضالين الهالكين; بسبب مخالفته أمر ربه وطاعته الشيطان.
كلمات بيانية : آتيناه : فالذي أعطى هو الله .الإيتاء : سرعة الإعطاء، وسهولته .
الانسلاخ : انسلخ عن انفصل ، كالانسلاخ من الثياب والجلد . وهنا بمعنى ابتعد وتبرأ؛
لم يقل:" فسلخناه "؛ بل أضاف الانسلاخ إلى صاحبه فالله منه براء .
وقال الله تعالى:"فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ "، ولم يقل:" فتَبِعَهُ "؛ فإن في" أتْبَعَه"إعلامًا بأنه أدركه ولحقه.
"فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ". الغي : هو الضلال وهو منتهى الخسران .
"وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا" : الرفعة من الله وتكون بما أراد هو و ليست بمجرد العلم؛ وإنما هي في النية الخالصة والقصد السليم .
وقوله :" أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ". أي: أقام ومال بكليته .
وقوله:" وَاتَّبَعَ هَوَاهُ " : الهوى : التغرض والتحيز والميل .
قوله :" فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُيَلْهَثْ"قال الجمهور: إنما شبه به لـأنه كان ضالاً قبل أن يؤتى الآيات، ثم أوتيها، فكان أيضاً ضالاً، فلم تنفعه لا في حالة حملها أو تركها ؛ فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل عليه، أو لم يحمل عليه.
قوله :"ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا " : المثل القبيح والسيئ .
:"فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ": وهنا تبيانا للأثر البالغ الذي تلعبه القصة والمثل .
المعنى العام : أمثلة توجيهية من البر الرحيم يذكر بها عباده المؤمنين الذين امتن عليهم بنعمة العلم
والمعرفة بواجب الشكر بدل الكفر ، ولا يكونوا كأمثال أقوام امتن الله عليهم بالعلم والهداية
ثم ابتلوا بالسراء أو الضراء فما شكروا وبطروا وما صبروا وكفروا ، فهم بذلك أشبه بالكلب
الذي إن حملت عليه يلهث أو تركته لحاله يلهث، وهو مثل للدناءة والحقارة التي آل إليها
هؤلاء المعرضين عن الذكر بعدما ذاقوا حلاوته ، فسيلقون غيا ولن يطيب لهم عيشا أبدا ،
وكيف يطيب لهم عيشا وقد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .
العبرة : كم من أناس أسبغ عليهم باريهم بنعمة الرشاد والهداية فلما عُرضت عليهم الدنيا باعوا
دينهم بهذا العرض الدنيء ، كم من عالم زل وتقي أنذل بسبب الجاه والسلطان ،فيا لخسارة
من كان هذه هي حاله ترك ذكر ربه وجعل الدنيا منتهى آماله .
أين قرآنك الذي كان ينير ظلمتك ، أين ذكرك الذي كان يعمر مجالسك ، أين علمك الذي
كان يزين مدارسك ,تركته وانسلخت منه انسلاخ الثعبان من جلده ، ورحت تستبق الزمن
لتتدارك ما فاتك من ملذات وشهوات ، خسئت والله حينما شبهك خالقك بكلب يلهث
وراء الجيف في سرائه وضرائه ،أما لك من معتبر وتعود لصوابك ورشدك قبل أن تحل عليك
لعنة الله فتخسر الدنيا والآخرة .
من أسباب الانتكاس :
1- النية : فمعظم المكبكبين من على الصراط المستقيم كانت نيتهم في نيل غرض من أغراض الدنيا الدنية فلما تحقق غرضهم تركوا دينهم ، وما أكثرهم في زماننا ، عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-::" بادروا بالأعمال الصالحة فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا رواه مسلم.
2- اليقين : قلة اليقين بالله تعالى وضعف الإيمان بما أعده الله تعالى من نعيم في الآخرة .
3- العدة : قلة العدة من تقوى وصبر وثبات ، فطريق الله تعالى طويل ودربه شاق فلما طال
عليهم الأمد كرهوا وملّوا وتركوا قال الله تعالى :" أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ
اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ
قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ "الحديد16 ،فاسقون: خارجون مارقون وعن الصراط ناكبون
" عادلون ، مائلون".
4- التشدد : التشدد في الدين وعدم الروية فيه وعدم الأخذ باليسر بدل العسر ،وهذا من الفتنة التي وقع فيها كثير من الناس ممن يتنطعون في دين الله تعالى ولا يرفهّون على قلوبهم ويمتّعون أنفسهم بما أباحه الخلاق العليم من الطيبات عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :" إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ " رواه البخاري (39) ومسلم (2816) قال الحافظ ابن رجب رحمه الله :" معنى الحديث : النهي عن التشديد في الدين ، بأن يحمِّل الإنسان نفسه من العبادة ما لا يحتمله إلا بكلفة شديدة ، يعني : أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة ، فمن شاد الدين غلبه وقطعه .
وقد جاء في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا : " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، ولا تُبَغِّض إلى نفسك عبادة الله ؛ فإن المُنْبَتَّ لا سفرا قطع ، ولا ظهرا أبقى " – " السنن الكبرى " البيهقي "3/19" ، والمُنْبَتُّ : هو المنقطع في سفره قبل وصوله ، فلا سفرا قطع ، ولا ظهره الذي يسير عليه أبقى حتى يمكنه السير عليه بعد ذلك ؛ بل هو كالمنقطع في المفاوز ، فهو إلى الهلاك أقرب ، ولو أنه رفق براحلته واقتصد في سيره عليها لقطعت به سفره وبلغ إلى المنزل " انتهى باختصار. " فتح الباري " لابن رجب "1/136-139" .
5-العجب والكبر : أمراض قلبية مستعصية تفتك بتقوى العبد وإيمانه هو أن يعجب بنفسه
وبعلمه وورعه وربما استطال بعجبه على غيره من العلماء والدعاة فتصيبه فتنة فيهلك عياذا
بالله .
و قد أخبرنا ربنا عز وجل خبر إبليس أعاذنا الله منه حينما أمر بالسجود لآدم فتكبر إعجابا بنفسه :"قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ." فاستحق اللعنة والطرد من الرحمة والخلود في النار .
الخاتمة : آية : قال الله تعالى :"وَلاَ تَكُونُوا كالَّتِي نقَضتْ غَزْلها من بعد قُوَّةٍ أنكاثاً." ،
ذُكر أن عجوزاً في مكة كانت تغزل الصوف في أول النهار، حتى إذا أوشكت على إتمام غزلها آخر النهار نقضت غزلها وأفسدته، ثم عادت إلى الغزل والنقض مرة أخرى، وهكذا كان دأبها وشأنها أبداً.
وهذا تحذير من الباري سبحانه لعباده المؤمنين من نقض أعمالهم الصالحة بأعمال سيئة كالتولي عن الإيمان إلى الكفر واستبدال الطاعة بالمعصية .
حديث : عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
«اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور» صحيح ابن ماجه .
قال ابن الأثير قوله «اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور» أي نعوذ بالله من النقصان بعد
الزيادة، وقيل من فساد أمورنا بعد صلاحها .
اللهم إنا نعوذ بك من الحور بعد الكور ومن ضيق الصدور ووحشة القبور وطول المقام يوم
البعث والنشور .
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك .
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين .